لم اكن قد زرت اي قطر في المغارب العربي قط، وكم أسعدني ذلك. وذهبنا مسعد وأنا إلى باريس، فما زالت الدولة الإستعمارية هي بوابة مستعمرتها العربية، ومن هناك إلى تونس.
ليست هذه العجالة وصفا جغرافيا لتونس فهي خضراء كما كانت ايام تغريبة بني هلال، والمنازلة الفظيعة والخرافية بين الزناتي خليفة وذياب بن غانم، ورمي "سعدة" المسكينة بخيانة "أو بيع رجالها". وليست وصفاً لاقتصاد تونس، وقد وصلت الخصخصة وبيع مواقع الإنتاج الصناعي وحتى الزراعي لصالح الشركات الأميركية ذروتها، وأصبح معظم قوة العمل فيها جيوشاً من العاطلين عن العمل. وليست وصفاً للوضع الثقافي في تونس، وقد تأدبت بالسياسة فقررت وأد أبي القاسم الشابي، كي يُحال دون "أن يريد الشعب الحياة".
هذه مقالة عن العسس، عن جيش من طراز عبد الهادي. ولا نقصد هنا عبد الهادي الذي خلّده الشاعر الراحل عبد اللطبف عقل بعنوان قصيدته: "عبد الهادي يصارع دولة عظمى".
وعبد الهادي هذا، رجل عسس مشرقي، حصل أن كنت ذات يوم قبل عقود رهن إقامة جبرية، وكان عبد الهادي يأتي يومياً من المدينة إلى قريتنا على دراجة نارية يضعها مقابل بيت والدي ويصعد سفح الجبل الذي تتعلق عليه قريتنا كسلة درَّاق صيفية ناضجة، ليجلس على شرفة عجوزين من اقاربه ليراقب من يزورني، ولم يعرف العجوزان شيئاً وما كانا ليسألاه.
- مرحباً عبد الهادي... هكذا بادرته ذات صباح بمجرد ما أطفأ محرك الدراجة العتيقة التي كان محركها يتوقف قبل أن يطفئه عبد الهادي لفرط قدمه.
- أهلاً.
- لماذا تتعب نفسك وتجلس وحدك حتى العصر، كما أنني وحدي، ما رايك أن تغير دوامك وتاتي عندي، على الأقل نتحدث؟
- مش فاهم شو قصدك.
- لأ ، أنت فاهم، بدل أن تراقبني وأنت وحدك وأنا وحدي، تعال وراقبني مباشرة، وبالمناسبة نتحدث. (طبعاً لم تظهر الحمرة على وجه عبد الهادي لأن لونه اسمر قليلاً، ومطعوج، ثم بما هو مخبر، لا يستحي...كما لم يصفر وجهه لأنه لا يخافني، فهو محمي من المخابرات).
- قال، يا شاب حل عني.
مضى...انهى يومه كالعادة، ولم يعد للمكان بعدها.
وذهب الزمان، وأخذت منا الحياة مأخذها. وفي زيارتي لتونس تحدثت مرتين في ضيافة منظمة غير حكومية، تديرها سيدة هندية تقدمية، منتمية إلى العالم الثالث بإخلاص وانفعال، السيدة كورين. كان الحديث بتنسيق بين هذه المنظمة ورابطة الكتاب الأحرار في تونس التي من نشطائها الكاتب محمد البجليّ، وهي رابطة لا مقر لها لكثرة ما لديها من موارد مالية. وحضر الحديث جمع من المثقفين والمناضلين السياسيين العرب التوانسة.
دعاني أكثر من واحد منهم للقاء في المدينة، وهم من منظمات يسارية، مختلفة، التجمع الوطني الديمقراطي، حزب العمال الشيوعي، حزب اليسار الإشتراكي...الخ.
بينهم كثير من الإختلاف ولكن ما لاحظته أن شيئاً خارجياً واحداً يجمعهم، وهو عبد الهادي. فقد أدهشني ان المخابرات تلاحق هؤلاء الرجال على المقاهي، بوضوح، وعلانية...تزيد كثيراً عن "نحن هنا".
أمام أحد المقاهي اشار "الهمامي" إلى رجل يركب دراجة نارية قديمة، والله كأنها دراجة عبد الهادي القديمة نفسها، توقف الرجل، وأطفا المحرك مقابل المقهى ـ وقال الهمامي، هذا من المخابرات، فهم لا يكتفون بالمشاة، والجالسين في "لوبي" الفندق، بل يستخدمون الدراجات كذلك.
لولا المبالغة لقلت ربما استعارت المخابرات التونسية نفس الدراجة المخابراتية المشرقية قبل اربعين عاماً، ومن يدري فتبادل الخبرات وارد.
ولكن ايها السادة، حتى اليوم، تتم متابعة الناس بهذا القدر وبهذا الشكل، ومن أجل سماع كلمة هنا وأخرى هناك. أما وهذه الأقطار ما تزال في مرحلة عبد الهادي وراحلته، فواحزناً على تونس الخضراء!
عن كنعان النشرة الألكترونية
اضف تعليقك على هذه المادة
|
|
|