.. لا نهضة حقيقية بلا نهضة الفرد نفسه. والنهضة الفردية تعتمد على البناء العقلي .. قبل أن نطلق العقلَ للتفكير.
يعلّق مفكرٌ عربيٌ سوريٌ على خبر بدء مشروع ''موسوعة لاتيه'' بصفحتي في الفيسبوك فيقول: ''أعجبني تجمع الشباب في مقهى لإطلاق العنان لملهمات الخيال. إنه بناءٌ عقلي بحت، كأن تبني جسما صحيحا قبل أن تطلب من هذا الجسم أن يؤدي عملا صحيحا .. هنا ينبني العقل عند هؤلاء الشباب بالتفكير المبتكر، وبإطلاق الأفكار بلا حد ولا تردد ولا عائق تحت دوافع نظرية ''خلط ما لا يخلط''، طريقة ربما تنقذنا من مأزق التفكير العربي، تعودنا أن نفكر قبل أن نكون مستعدين تماما للتفكير.ولقد طبقت المشروع في دمشق مع الصبيان والصبايا، النتيجة كانت مذهلة...''.
ما يقوله أستاذُنا الشامي، هو أن نجهز آلة العمل قبل الشروع في العمل .. عندما تريد أن تقطع طريقا طويلا فيجب أن تكون سيارتك معدة وصالحة ومجهزة لقطع ذاك الطريق .. هذا ليس أمرا مفصليا صغيرا (مع أهمية المفاصل الصغيرة) إنه أمرٌ حيوي، وهو الأهم ليسبق الخطوة الأولى في أي رحلة، وفي أي خطة .. فمن دونه نكون وضعنا الخطوة الأولى ولكن في الطريق الخاطئ، ثم لا نجني بعد ذلك إلا حصادَ الهشيم، حصادَ الأخطاء.
حتى نفكر تفكيرا صحيحا وناجعا لحل المشاكل وتذليل العقبات، وترويض التحديات، علينا أن نجهز آلة التفكير .. أن نبدأ في تطوير آلة التفكير ذاتها، أن نبني العقلَ قبل الشروع في التفكير في وضع الخطط، وصنع الحلول .. ليتحقق التتابع المنطقي الذي من دونه سيكون الوضعُ مقادير ممتازة لطبخةٍ فاشلة!
ولنأخذ مصطلحا نتفق عليه، كوسيلة نأخذها لتجهيز آلة التفكير للقدرة الاتساعية والاتساقية على التفكير، وليكن هذا الاصطلاح هو ''الثقافة'' كما نتلقى معناها من أول وهلةٍ.
إن تثقيف الفردِ هو الأساس في تثقيف الشعب، فالفردُ هو الخلية البنائية الحية في الجسد الكبير الذي هو الشعب، وكلما تلاحمت هذه الخلايا بفعل الثقافة التي تصعد بالفكر والنظرة الشاملة للأمور وحسن تدبير وترتيب الأولويات أفادَت لبناء الكيان التاريخي والنهضوي اجتماعيا وعلميا وعمليا كما ينبغي وكما هي الطموحات والآمال.
وأن نلتفت لأمر مهم جدا .. جدا .. الثقافة المدرسية والجامعية .. لا تكفي!
''فريد زكريا'' الآن من نجوم الفكر والإعلام التثقيفي في أمريكا، من أصل هندي، ثم أصبح أمريكيا، أتابعه منذ عشر سنوات متحوِّلا أكثر من مرة، وخلع جلودا وراء جلود متلونا في فكر متجدد، وفي كل مرة يرتقي درجة في سلّم الشهرة الأمريكية بحذاقةٍ تعدّت كبار زملائه من الأمريكان .. تابعته كاتبا تنظيريا أكاديميا في مجلة ''النيوزويك''، ثم بدأ يتحرك في نظراته القومية الأمريكية (يتعصب كثيرا لأرومته الجديدة) إلى النظرة البارونامية العالمية، وتنبهَتْ لهُ أشهر محطة إخبارية الـ ''سي إن إن''، ليكون مضيفا لبرنامج باسمه، وكانت ضربته الكبرى، فقد أصاب بحجرٍ واحد عملاقين، المحطة الكونية الأشهر، ثم شقيقتها المجلة الأروج عالميا ''التايم''، لا ليكون كاتبا فقط وإنما محللا عالميا ومحاورا لكبار من في الأرض. ''فريد'' عمل بوصية أبيه: ''لا تعمل إلا من أجل شيء واحد'' فضغط الأبُ على جمجمة الفتى.. والفتى فهم الرسالة جيدا!
في أول مهمة له في ''التايم''، قابل ''فريد زكريا'' رئيس الوزراء الصيني ''وين جياباو'' ولكم وددت لو يتاح لي نقلها وترجمتها كاملة هنا، فهي مقابلة يجب أن ينتبه لها كل مخططٍ استراتيجي أممي.. اكتشف زكريا: ''انسَ كل ما يقال عن الصين .. الحقيقة الأكبر: الصينُ الآن تستثمر في أفراد شعبها!'' نعم.. وبدهاء صيني كينفوشسي لم ينسوا رغم القرون، رغم تغير أنواع الحكم ومدارس العقائد المتطرفة حقيقةً أزلية: بناء الفرد معرفيا وثقافيا. الصينُ تستعد الآن للمرحلة الثانية، وهي المرحلة الأهم، ولكن الدهاء أرجأ الأهم بعد المهم..
المرحلة الأولى في الخطة الصينية: صرف آخر قطعة نقد لبناء التجهيز التحتي: الطرق، الموانئ، المطارات، الجسور، السكك الحديدية، الأنفاق، المجمعات السكنية، المناطق الصناعية .. لتكون البلاد جاهزة لأكبر ورشة تصنيعية في تاريخ الإنسان, ولتضع قدما تحذيريا أوليا لمكانتها في العالم، وحتى يبقى العاملُ الصيني رخيص التكلفة (لقلة التثقيفِ إما علميا أو تدريبيا أو لكليْهما) مع العناد الصيني الذي لا يُفـَل في البقاء على قيمة عملتها منخفضة، حتى يأتي المستثمرون من كل مكان، وتروج الصناعة الرخيصة في العالم، فـ ''تتملى'' خزائنُ الصين بالمال سيولا من كل نبع في العالم. وهذا ما صار..
الآن جاءت المرحلة الثانية المهمة: البناءُ التحتي جاهز، ويتسع بسهولة ويسر في كل لحظة، الأموال متاحة كما لم تُتَح من قبل.. القفزة الحقيقية للتـنين الصين للهيمنة على اقتصاد الأرض، ليس الإغراق في البضائع الرخيصة، ولكن إثراء عقل الفرد الصيني!
مدٌّ صينيٌ قادم .. لن يقف أمامه إلا شعبٌ بُنِيَ عقليا وثقافيا مع تجهيز مسبق..
أهلا بكم بعالم الفرد الشعبي المثقف.. عالمُنا القادم!
http://www.aleqt.com/2010/10/16/article_456264.html
اضف تعليقك على هذه المادة
|
|
|