زمان كنا لا نعرف ما معنى دبابة تجوب الشوارع و نحن نجري و نركض وراءها و جنود الاحتلال ينظرون إلينا بنظرة كلها حقد و يطردوننا و يضربوننا و أحيانا يعطوننا حلوى فرنسية حتى نخبرهم عن مخابئ الثوار كنا في الحقيقة نتصرف بكل تلقائية لا نفهم ما معنى حرب أو احتلال كنا فتية لا يتجاوز عمرنا التاسعة نرى بأم أعيننا الجثث منتشرة هنا و هناك و عمال يحملونهم على عربات ليتم دفنهم.... يقولون لنا إنهم شهداء ...كنا نتابع مشيا على أقدامنا الرثة و نحن حفاة جنازات الموتى و نسمع عويل النسوة ممزوجة بزغاريد وبرغم صغر سننا لا نخاف الموت بل و حتى نتحداه من أجل أن نفهم الحقيقة و ما يجري فنحرم من التوجه إلى مدارسنا و نتعرض للتفتيش من قبل جنود المحتل و شيئا فشيئا صرنا نعرف أننا نعيش تحت نير استعمار بغيض دخل أرضنا و مزق شريان الحياة و هدد أهلنا و اطردهم من بيوتهم القصديرية و منعونا من اللعب و اللهو و تركونا في عزلة و قتلوا منا الكثير ... كان آباؤنا و أجدادنا يقولون لنا انه عام الخطر وهم يعنون أن بلادنا مستعمرة و محتلة صرنا نكره هؤلاء المجرمين السفلة و أصبحنا نشارك الثوار في ضرب المعتدين و لو بالحجارة حتى نحرر وطننا و نستعيد كرامتنا سيما و أنهم هاجموا ديارنا و هدموا مقدساتنا و عبثوا بمشاعرنا كعرب و مسلمين ... النتائج كانت باهظة الثمن و من دفع الثمن هم الكبار الذين وقفوا في وجه المحتل الآثم فسقط من سقط شهيدا و اعتقل من اعتقل و عذبوا في سجون الاحتلال لكننا تعلمنا أن لا نخاف و أن إرادة الشعوب لا تقهر و إن النصر آت لا محالة ... في زمن الاستعمار الفرنسي عاني شعبنا العربي في الجزائر الأمرين و مات مليون و نصف شهيد و سجلت تونس و الجزائر ملحمة بطولية على اثر حوادث ساقية سيدي يوسف يوم السبت 8 فيفري 1958 في يوم سوق أسبوعية بقرية ساقية سيدي يوسف ولم يكن المستعمر الفرنسي يجهل ذلك عندما اختار هذا اليوم بالذات للقيام بعدوانه الغاشم على هذه القرية الآمنة. وقد صادف ذلك اليوم حضور عدد هام من اللاجئين الجزائريين الذين جاؤوا لتسلم بعض المساعدات من الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدولي. وقد كانت مفاجأة كل هؤلاء المدنيين العزل كبيرة عندما داهمت القرية حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا أسراب من الطائرات القاذفة والمطاردة وراحت تدكها دكا امتزج الدم الجزائري بالدم التونسي مثلما امتزج الدم الفلسطيني بالدم التونسي على اثر غارة اسرائلية نفذتها طائرات إسرائيلية على مقر القيادة الفلسطينية في منطقة حمام الشط بتونس في اليوم الأول من شهر تشرين الأول عام 1985 وأدت هذه الغارة إلى سقوط عشرات الشهداء الفلسطينيين والتونسيين ... و قبل أيام هوجمت من طرف جنود اسرائيل سفن الحرية المحملة بمواد إغاثة و أدوية لأهالي غزة المحاصر فتم منعهم و قتلوا منهم و اعتقلوهم لكن مهما فعل الطغاة فان إرادة الشعوب لا تقهر....
قال شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر ومن لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر كذلك قالت لي الكائنات وحدثني روحها المستتر ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر إذا ما طمحت إلى غاية ركبت المنى ونسيت الحذر ومن لا يحب صعود الجبال يعش ابد الدهر بين الحفر فعجت بقلبي دماء الشباب وضجت بصدري رياح أخر وأطرقت أصغى لقصف الرعود وعزف الرياح ووقع المطر وقالت لي الأرض لما سالت: يا أم هل تكرهين البشر ؟ أبارك في الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر وألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش ، عيش الحجر هو الكون حي يحب الحياة ويحتقر الميت مهما كبر وقال لي الغاب في رقة محببة مثل خفق الوتر يجيء الشتاء شتاء الضباب شتاء الثلوج شتاء المطر فينطفئ السحر سحر الغصون وسحر الزهور وسحر الثمر وسحر السماء الشجي الوديع وسحر المروج الشهي العطر وتهوي الغصون وأوراقها وأزهار عهد حبيب نضر ويفنى الجميع كحلم بديع تألق في مهجة واندثر وتبقى الغصون التي حملت ذخيرة عمر جميل عبر معانقة وهي تحت الضباب وتحت الثلوج وتحت المدر لطيف الحياة الذي لا يمل وقلب الربيع الشذي النضر وحالمة بأغاني الطيور وعطر الزهور وطعم المطر.....
اضف تعليقك على هذه المادة
|
محمد علي الهاني - تونس التاريخ:
18-06 -2010
|
أخي العزيز الكاتب المبدع رضا سالم الصامت كتبت بأنامل ذهبية ودوّنت مشاهد تاريخية حقيقية ، وأحسنت لمّا ختمت المقال بأبيات من قصيدة ( إرادة الحياة) لشاعرنا العبقري أبي القاسم الشابي. تحياتي وشكري وودّي وتقديري.
|
|
|
|